- 4 -
أيّ سطوة للأمكنة تتبدّى، بحيث تبدو محاولة فصم عرى الاندماج معها معادلة للموت! الزمان هو الزمان أو أكثر قليلاً، لكن المكان اختلف! ولكل مكان بصمته وملامحه, تلك البصمة الواثقة التي تؤكّد ـ في المجتبى الأخير ـ أنَّ النصر صنو الهزيمة في معركة كهذه! صحيح أن ما تصرّم من زمن لم يكن كبيراً, لكنّ ما يجري من حولك كان ـ بكل المقاييس ـ موغلاً في الغرابة! فهناك, في ذلك المدى المترع بالغبار,المتدثر بالنسيان, استلقى الحّي الذي انتهت رحلتكم إليه على كتف تلّة وسيعة, منذوراً لأصابع الهاجرة والإهمال, فنما في خلسة من الزمن, وتوسّع شرقاً, وفي وسطه ارتفع الخزان الذي يمدّ المدينة بمياه الشرب, باسطاً سلطانه على المكان كطائر خرافي هائل!
كانت البيوت الطينية المتناثرة قدام العين بطاقات احتجاج راشحة بالأسى, تستدعي المقارنة بين لوحتين؛ أنْ أين هي البيوت الكبيرة؛ التي كان أبوك يتكلّم عنها!؟ إنْ هي إلاّ أكواخ مهلهلة ترتطم ببعضها,وتستسلم لحواف أزقة متربة؛ شبيهة بعروق شاحبة في جسد منهك؛ فأين اختفت الكهرباء التي تنير هاتيك البيوت, وأين توارت المصابيح التي تضيء أزقّتها!؟
معمّداً بالانخداع الوالغ في الدم وقفتَ تتأمّل الحوش الذي توقّفت الشاحنة أمامه، فيما كّل شيء من حولك يتقصّف وينكسر!
أهذا هو المكان الذي كان أبوك يغزل صورته بمغزل عاشق وله!؟
كــان الحـوش مبنيـاً بحجـارة سـوداء غيـر مليّصـة, فبـدا ـ وقــد عــلاه الغبـار ـ كئيباً وباهتاً, ولم يكن ثمة باب يسدّ المدخل!
ولكن ما الذي أغراكم بتلك المقايضة التي لم تكن تعنّ في البال!؟
كلّ شيء من حولك كان غريباً, غير مألوف, وربما معادياً أيضاً! ذلك أن الدار التي ستطويكم تحت جناحها بدءاً من تلك اللحظة كانت تضمّ غرفة مستطيلة بلهاء، ضيقة وطويلة، تتّصل بغرفة أصغر، ربما كانت في أصل تصميمها مطبخاً! وراحت الألفة المُفتقدة بينكما تكشف لعي*** عيوب المكان تحت ستار مُسبق من الرفض المبطّن! كانت الجدران تنوء تحت وطأة السقف الخشبيّ المحمول على عوارض خشبية، وكانت يد الماء قد خطّت رسوماً غريبة على تلك الأعمدة؛ التي اسودّت بفعل الدخان الناجم عن التدفئة، فازدادت كآبة! أحاسيسك كلها كانت مرهونة لصالح بيت رحب أليف ظلّ هناك،أين منه هذا البيت الموحش؛ الذي يشكو ضيق ذات اليد، ابتداءً بدكّته الإسمنتية التي تنتهي إلى حفرة في الخارج أُعدّت لاستقبال مياه الاغتسال، وانتهاءً بالباب المتداعي ذي الشقوق الواسعة! بيد أن هذا كلّه لن يوازي جزءاً من معاناتك المرتبطة بمشكلة التغوّط، إذْ أن المرحاض ـ الذي عرفتَ اسمه فيما بعد ـ استوى في ركن من الحوش على شكل حفرة في الأرض، متدارياً بزاوية الحوش من جهة،في حين نهضت التلة الترابية؛التي اسُتخرجت من الحفرة نفسها،لترسم ساتره الأمامي من جهة أخرى. وهناك، على بعد خطوات من داركم راحت الأراضي الزراعية تغطّي المسافة الفاصلة بينك وبين أبيك بالأسئلة!
إذن! فمـا الفرق بين هـذا المكـان والقريـة التي تركتموهـا وراءكـم!؟ هناك ـ في القرية ــ كـان الناس سيجتمعون مــن حولكم لمساعدتكم في ترتيب
أثاثكـم، فيما لم يحركّ أحدهم ـ هنا ـ ساكناً! بل أخذوا يراقبونكم من خلف الأبواب المواربة من باب الفضول ربّما! هناك ما كان ليفوت أهل القرية أنكم مُتعبون، وأنّ أدوات المطبخ قد ضاعت بين أثاثكم، فيتسابقون إلى استضافتكم، و إطعامكم، في حين رسم الجيران ـ هنا ـ قطراً لدائرة ما تجاوزوها نحوكم! حتّى التّحية ضنّوا بها! ثمّ ما لبثوا أن أغلقوا أبوابهم، وانصرفوا إلى ما كانوا فيه!
أنت تقرّ ـ مُكرهاً ـ أن هذا الحيّ ليس قرية، برغم علامات التشابه، ولكن أحداً لا يستطيع أن يّدعي التماثل بين ما تراه عيناك، وبين تلك الصورة الموشاة بالألق، التي كان أبوك يرسمها عن القصور الإسمنتية الفارهة،والشوارع النظيفة المُعبّدة،والحوانيت الكبيرة الملأى بمختلف أنواع البضائع، والسيارات التي لا تُحصى، لكي يزيّن لأمك مغامرتكم هذه!
"يا امرأة أطلبي لبن العصفور هناك، وستجدينه في متناول اليد!"
فهل كان أبوك ـ لا سمح الله ـ يغرّر بكم!؟
ما الذي حدا برجل مثله إلى سكنى دار إيجارها اثنتا عشرة ليرة سورية!؟ كانت الدور ـ على حدّ علمك ـ تشاد لسكنى أصحابها، أمّا أن يبني المرء داراً لكي يؤجرها، فأنت لم تكن قد سمعت بشيء من هذا القبيل!
ومن غير أن تشعروا كان الليل قد أرخى غطاء معتماً على الكائنات، فأفسحت أمك مكاناً لنومكم وسط الأثاث المتكوّم بفوضى عجيبة! استلقيتَ فوق فراشك الجديد! كان التعب قد تسلل إلى الأعصاب المشدودة، التي نال منها السفر والقلق، موهناً محطات التماسك، فتوزّعت الأعضاء المُنهكة على أجزاء الفراش، تطلب راحة مرمّمة للخلايا، لكن النوم ـ بعكس ما هو مُتوقّع ـ أخذ ينأى، وراحت الغرفة الضيّقة تضغط على الأعصاب، وشعورك بالعزلة يسفّ روابي النفس العزلاء!
أهي الغرفـة ضيّقـة إلى ذلك الحّد ، أم أنـه القلـب يضفـي علـى الأشيــاء هواجسه ومخاوفه وانكساراته!؟
تساءلتَ، وهرباً من ألم مفترس لا يعرف الرحمة أو المنطق،أخذتَ تتأمّل الأشياء التي كانت تتراءى ضائعة،ذلك أن بضع ساعات – فقط - كانت قد انقضت على رحيلكم عن القرية،لكنّ صورتها ـ برغم الإلحاح ـ أخذت تستعصي على الحضور، فتسرب الخوف إلى أعماق النفس المكروبة يرضّها!
أيمكن لنا أن ننسى بهذه السرعة!؟
انبثق السؤال في الجوف يمور ويؤلم ، لكن ما يحدث، راح ـ ككّل جديد ـ يفرض سياقه الخاص،وفي وقت متأخّر من الليل؛ تغلبّ التعب على الأسئلة القلقة المحتشدة في الرأس، فذهبتَ في نوم مضطرب مُثقل بالكوابيس
يتبع