- 5 -
كأن أحداً ما ضايق الشمس ، أو أبعدها بيديه ، فلم تعد تلك الشمس الكاوية ، بل أضحت شمساً أخرى ، وانية ربما ، فاترة ومتعبة ، والهواء الذي كان زفرة حرى وحارقة قادمة من أتون عظيم ، استمد – هو الآخر – من الأفق الغربي برودة وروى ، وشيئاً من الغبار أيضاً, وراحت التربة التي تشققت شفاهها ترجو مطراً يروي الأعماق العطشى ، فيما أنشأت الأشجار تتخلى عن أوراقها الصفراء الذابلة ، في محاولة مخفقة لاستجداء عطف السماء ، إنه مساء خريفي آخر يحيل إلى الإحساس بالنهايات ، ويؤسس لوحشة لا تريم !
موسم القطن كان قد أضحى على الأبواب ، فتوشت الحقول بألوان شتى مستمدة طيفها الواسع من ثياب العاملات في جنبه ، وراح بياض القطن يمازج خضرته بنصاعة رائعة ، بيد أن أمك كانت مكرهة على ترك عملها في الحقول ؛ بعد أن أحكم المرض قبضته على أبيك ، لتلازمه ، وتسقيه الدواء ، وكان عليك أن تعود إلى البيت بسرعة في الأيام الأخيرة مخافة أن يحصل مكروه أثناء غيابك عنه ! كانت الصورة الكلية قاتمة ، فأنت لم تكن قادراً على ترك عملك ، لتلازم أبيك في مرضه ، لكن تخليك عنه يعني ببساطة تامة ضياع آخر مورد لكم ، في الوقت الذي كان المرض فيه – أساساً – يلتهم جل ذلك المورد ، ثم من يعرف إلام ستؤول الأمور في النهاية !؟
وهرباً من هاجس مخيف راح يحفر في المخيلة ، أخذت تتحرى في تفاصيل أخرى ، لعلها تشغلك عما حولك قليلاً ! كانت ألوان الخريف الباهتة قد التفت بسواد الليل ، بينما توارى القمر خلف غيوم بيضاء متفرقات ؛وبتؤدة مرت عيناك بأمك المقعية على حافة فراش أبيك الذاهل عن نفسه ، ثم انتقلت إلى علب الدواء المتناثرة حول المخدة ، فالسقف الخشبي ذي الرسوم الغريبة ! كل شيء كان يرسف في هواء راكد ، يندغم فيه حامض البول ببقايا الطعام الخاص بالمريض ، ورائحة الدواء النفاذة !
-أماه ، لو ترتاحين قليلاً ، سآخذ محلك في العناية به !
تنهدت المرأة بحرقة !
- حسناً يا بني !
وتمددت على جنبها الأيمن لترتاح بعضاً من الوقت ، فأسندت خدك إلى يدك متفكراً في الجسد المسجى على الفراش ، بعد أن تضاءل إلى حدوده الدنيا ، وأضحت عروقه بارزة ! كان الجلد قد تدلى عن كثير من المواضع . بعد أن تناقصت الكتلة العضلية بسرعة ، أما الوجه الذاوي فقد علاه شحوب مرعب ! وخلا القلب المريض ، الذي راح يدفدف جاهداً لتأمين شيء من الدم ، لم يكن في الكتلة النائمة أي حركة تنم عن الحياة !
يا الله ! أهذا هو الرجل الذي كانت خطاه تفتت الحصا من تحتها !؟
أهذا هو الأب الذي كانت ضحكته الفياضة تجلجل مدوية عارمة !؟
طويلاً شاغلتك مثل تلك الأسئلة ، وراحت تفاصيل بعينها تترى على شاشة الذاكرة – ربما – لخصوصية فيها ! بعضها يعود إلى أيام الطفولة المبكرة التي كنت تمتطي فيها ظهره ، أو ترافقه إلى المسجد لترى إلى تلك الحركات الطقسية الغامضة التي يقوم بها المصلون ! وفي الحالات كلها كنت تعرف كيف تأخذ منه ما تريد ، بعد أن وضعت يدك بصورة غامضة على تلك الروح المتسامحة المتدارية بمظهره الخشن ، فقط كان عليك أن تتحاشى ساعات غضبه النادرة ! بينما بعضها الآخر يعود إلى الفترة التي بلغت فيها مبلغ الرجال ، وجلها يقوم على تفاهم عميق من غير لغط أو لغو ! كان الرجل يتابعك بصمت وأمل ، يريدك أن تكبر بسرعة ، فهل كان يدري بما ستؤول إليه حاله !؟ أما كم من الوقت ظلت تلك الأسئلة تلح ، فأنت لا تدري ! وكيف سرقك النوم جلوساً ، فأنت أيضاً لا تدري ! ولا تدري متى أو كيف اكتشفت أمك ما حدث ! كل ما تعيه أن صرختها المفاجئة شقت جهامة الليل إلى شطرين ، فاستويت في جلستك مداهماً بحس الانخطاف ، وتطلعت حولك مستطلعاً ! كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بقليل ، وللحظات اختلط عليك المكان والزمان والحدث ، فأجهدت تفكيرك تريد أن تتذكر كيف ومن ومتى ولماذا ! كانت أمك تولول وتلطم خديها ، فأسرعت إلى حيث فراش أبيك ، ووضعت يدك على صدره ، لكن قلبه لم يكن ينبض ! التفت إلى أمك ، ففاجأك شعرها المنقوش ، والذعر العميق الذي يطل من عينيها ! كان منظرها غريباً ، يبعث على الخوف ، فوقفت زائغاً مجفلاً كحيوان صغير فاجأته الأضواء الكشافة ! ومن أنحاء الغرفة المنذورة للذهول ، راح طقس جنائزي يعلو وينتشر ، فيما تمدد الموت في المكان بكثافة ، وأخذت عيناك الحائرتان تمران على كل شيء ، بيد أنهما ما كانتا لتربان ، أو أنهما كانتا تريان ، لكن العقل الداخل في مدار الصدمة لم يكن قادراً على التحليل والربط والتفسير !
أين اختفت الدموع !؟
وأي يبس أصاب مفاصل الروح !؟
أي قصور ممعن في السيطرة على الأشياء تبدى !؟
وأي إحساس بالعجز !؟
شيئاً فشيئاً أخذت الأبعاد تتضح في الذهن المضبب ، وأدركت بشكل أولي فداحة الخسران الذي ألم بكم ، فأردت أن تصرخ ، أن تضرب الأرض بقدميك ، أو تبكي ، لكن اليباس الذي غل الروح لم يكن قد فارقها بعد ! شئ ما كان يريد الخروج على شكل نقمة أو عويل ، لكن الوسيلة أعيته ، فانشبحت فوق الجثة العزيزة بطولك ! إلا أن الأيام ظلت تخب كما كانت ، فأخذت الحادثة تنأى ، وراحت التفاصيل تتأبى على الحضور ، فإن فعلت، فإنها أخذت تفتقد إلى الترابط والوضوح ، بحيث ما عادت لحظات التذكر الغامضة تترافق بتلك النار الكاوية التي كانت تلفح الضلوع إثر الأيام الأولى لمصابكم الأليم ، بل إنها اكتفت بإيقاع من الأسى الهادئ فقط ! إيقاع مبهم لعله – أصلاً – يتعلق بما تكشف لك خلال المأتم ، ذلك أنك أمضيت الأيام القليلة التي تلت الوفاة مختنقاً بوحدتك ، إذ راح الآخرون يمرون بداركم من غير أن يعرجوا عليها ، تاركين لك مشاعر الضآلة ، والإحسـاس بفداحة الفـقـر الذي يشتت الصلات ، ويقتنص من النفس كل ما هو إنساني ونبيل ، مخلقاً لها المياه الآسنة والصدأ ومشاعر القسوة !
واليوم ، فإن الذكريات والوقائع تزدحم في الذاكرة، إلا أن حس الفقد والفقر والانكسار المستمر ؛ كلها أدخلت تلك الذكريات في المحرقة ، وأنضجتها ، بعد أن أسلمتك إلى حالة من الحياد أقرب إلى التسليم ، فأخذت تتأمل في محيطك بانتظار ما سيحمله الغد ربما !
-6-
أنت لا تطلب ملكاً ضائعاً ، ولا مالاً ينهمر عليك كالمطر ، بل أن كل ما تبغيه هو موطئ قدم ، ولقمة نظيفة ، وثوب خال من الرقع ، فهل هذا كثير على بلد راح يعد بغير حساب !؟ ثم أن تلك المطالب هي الأخرى مطالب مؤقتة ، فأمورك لا يمكن لها أن تستمر على تلك الحال ، إذ أنك لـن تـبقى مترهباً إلى الأبد ، وغداً أو بعد غد ستهمس لك فتاة من وراء الزجاج ، فتستجيب لها ، وتؤسسان معاً أسرة متكاتفة ؛ قد تكون صغيرة في البدء ، لكنها ستكبر في ما بعد ، ويملأ فراخها أركان الأرض الأربعة ! وهذا كله يحتاج إلى دخل ثابت ومستقر ! وبالأعراف والسنن كلها تبدو مطاليبك مشروعة ومتواضعة ، فلماذا تاهت في زحام الحياة على تلك الصورة !؟
كانت التساؤلات العديدة تبرق في فضاء الذهن بلا استئذان محمومة أو مراوغة ، تفند ذاتها ، أو تدحض بعضها البعض بالتتالي ، ثم تعاود انطلاقها على صفحة وجهك المربد ، بحيث تستطيع العين الملاحظة تلمس آثارها فرادى أو مجتمعة، بينما كانت قدماك تقودانك بشكل آلي نحو السوق!
كانت الشوارع والأزقة مزدحمة بطلبة المدارس ، ولم يكن هذا جديداً عليك ، إذ سبق لهم أن غادروا مدارسهم قبل أيام ، لكن الجديد في الأمر أن إضرابهم هذه المرة كان موجهاً ضد الحكومة ذاتها ، وهذا ما أثار فضولك ، فنسيت هواجسك الصغيرة ، وانزرعت وسط لغة جديدة تفرض منطقها وسياقها ! موظفو الإدارات ، وأصحاب دكاكين البقالة ، ومتاجر الألبسة الجاهزة ، وسوق الصاغة ، والحلاقون ، وأصحاب المطاعم ، الكل أسلموا أنفسهم لصمت مريب ينذر بالانفجار ! ثم جاء الهدير مزلزلاً ، جارفاً في طريقه كل شيء ! ومن كل مكان راح الناس ينحدرون نحو الساحة المركزية ، التي تستطيل أمام دار المحافظة ، فدنوت من أطراف المكان لإرضاء فضولك ، كانت الساحة تعج بحشود غفيرة ، فيما أنشأت جموع أخرى تتقدم نحوها من جهة دار البلدية ، وأخذت الأطراف تضخ المزيد من الناس في المحيط البشري الهائل ، إلى أن اكتظ المكان ، وأضحى محشراً حقيقياً يموج ويترنح كسفينة في طريقها إلى الغرق ، بما جعل أي حركة وسط تلك الحشود أمراً بالغ الصعوبة !
بعضهم كان محمولاً على الأكتاف يهتف مستنهضاً فيهم الهمم ، فترتهج الجموع ، وتروح تردد الهتافات التي تدفع عن الصدور غيظاً ظل مكتوماً فيها زماناً ، بينما كانت الشعارات تتداخل ، فهذه تهتف للوحدة ، وتلك للديمقراطية ، وثالثة للخبز والسلم والحرية ! البعثيون والشيوعيون وقلة من القوميين العرب قد تجمهروا في المكان ، في حين غاب عنه القوميون السوريون أو تداروا ، بعد أن اتجهت أصابع الاتهام إليهم إثر مقتل العقيد عدنان المالكي ! أما الإخوان المسلمون فكانوا يعدون على الأصابع ، برغم ما يشاع عن كثرة أعدادهم في المحافظات الأخرى !
كان العرق يزخ من الجباه ، يرشح بغزارة عبر الأجساد المتراصة ، لكن المد راح يتزايد – لحظة فلحظة – مع تدفق المزيد من الناس نحو المكان، فأخذ بعضهم بتسلق الأشجار وأسوار الأبنية المجاورة ، أو باعتلاء ظهور العربات السيارة المصطفة على الأطراف ، بحيث أضحى التقدم أو التراجع وسط تلك اللجة في حكم المستحيل !
فجأة ترنحت الجموع المتداخلة ، فماجت ذات اليمين وذات الشمال كموج شرس لا يعرف طريقه ، وأنشأت تتفرق بفعل قوة مجهولة ! ومن خلال فرجة في الحشود المتراجعة لمحت رجال الشرطة الذين كانوا يتقدمون لتفريق المتظاهرين ! كانت الهراوات والعصي المنذرة تلمع في أيديهم، فآثرت السلامة ، وانسحبت من زاويتك بسرعة !
كانت الشوارع البعيدة عن الساحة تكاد تخلو من الناس ، والمتاجر ما تزال موصدة ، فيما كان سوق الهال – الذي ينهض على ربض من الأرض – بدوره مغلقاً ، فبدت أزقته الضيقة الخالية من الناس موحشة ، مع أنها كانت تبدو أكثر سعة لخلوها من البشر والعربات والخضار المعروضة على جوانبها !
لم تكن قد بعت شيئاً من أوراق اليانصيب في يومك هذا ، بينما راح النهار ينسحب من البلدة كموجة ناكصة ، ولم يكن ثمة أمل في أن تجد مشترياً ، ذلك أن المدينة كانت قد نذرت نفسها للصمت ، فخوت شوارعها إلا في ما ندر ، ولم يبق أمامك إلا العودة إلى البيت ، فقطعت الشوارع مهموماً متكدراً ! ومع اقترابك من الحي راحت حركة غير مألوفة تملأ أزقته ، فدفعك فضولك لتتبع الأمر ! كان اللغط يعلو عن طعنة سكين تلقاها أحد شباب الحي في تظاهرة اليوم ، وراحت الأزقة الغارقة في ظلال المساء تنقل الخبر بشيء من الخوف والترقب ، إذ كان ثمة سؤال ملح !
والآن ما العمل !؟
نقل الشاب إلى المشفى كان مستحيلاً ، لأن مشاركته في التظاهرة ستنكشف ، وعندها فإنه سيتعرض لغضب رجال الأمن ! أما إسعافه بالوسائل البدائية فلم يكن مضموناً ! وكانت القصة تلامس فيك وتراً ما ، فأخذت تتابعها عن بعد ، من غير أن تتقدم نحو دائرة الضوء كثيراً ، كان الفضول يدفعك إلى الأمام ، لكن الخوف كان يسمرك في مكانك ، مصراً على تذكيرك بكلمات أبيك التي ما تزال ترن في الذاكرة / أن ابتعد عن السياسة يا بني ، فهي لا تطعم خبزاً ، ثم أن العين لا تقدر أن تقاوم المخرز ، هذه حكومة يا بني ! حكومة ن فلا تلعب بالنار ، وإلا عرضت نفسك للخطر !/ فقعدت في الدار تتسقط الأخبار ، ومع أنك لم تكن تعرف الشاب ، إلا أنك شعرت براحة عميقة حينما سمعت بأنه يتماثل للشفاء ! فألقيت بالموضوع جانباً ، ورجعت إلى أوراق اليانصيب التي توالجت بحياتك توالج اللحمة في السدى !
يتبع