(هذا المتشرد (قصة قصيرة

لا ادري لماذا اثار هذا المتشرد الذي احتل موقعه امام نافذتي قلقي وغضبي ، فمنذ ان سكنت في هذا المنزل وهذا الموقع تحديدا مثار جذب لكافة أنواع المتشردين والمتسولين الذين عرفت طوال حياتي ، في البداية كنت استدعي الشرطة لكي تطردهم ، لكن بمرور الوقت لم يمثلوا لي عبئاً كثيرا أو مشكلة ، فلم يعد أمر تجميل المكان يثير اهتمامي بعدما انقطع أبنائي وأصدقائي عن زيارتي منذ زمن طويل.

لكن هذا المتشرد بالذات أثار في قلبي الكثير من الخوف ومن الرهبة والقلق وأنا أشاهده كل مساء يأتي بملابسه الرثة المتسخة ، ليريح جواله الذي يحمله على ظهره ثم يجلس مفترشاً الأرض ويخرج دفتراً ويبدأ في كتابة شيء ما.

يبدأ في دندنة ألحان اعرفها جيدا واحفظها عن ظهر قلب ،ألحان أغاني قديمة لفيروز ، كانت هذه الأغاني في تلك الفترة قد بدأت في الاندثار لتحل محلها أغاني أخرى لم تجذب اهتمامي كثيراً ، دهشت لأنني لم أكن أتصور أن هناك أحدا في هذه الأيام يعرف هذه الألحان ، بل لم اعتقد أن هناك من لا يزال يسمع عن فيروز.

لكن أكثر ما أثار قلقي ورهبتي هو ظهوره الليلي فقط مثل شبح ، فمع لحظات الفجر الأولى يحمل جواله بسرعة ويختفي ، وهو يخفي ملامح وجهه جيداً بقبعته الصوفية ، لا اعرف تحديداً إلى اين يذهب ولا اعرف تحديداً متى يعود ، ففي كل مساء بعد استيقاظي من القيلولة أجده وقد افترش الأرض في ذات الموقع وقد أخرج دفتره من الجوال وبدأ في الكتابة ودندنة الألحان ذاتها ، أراقبه من خلف فتحات النافذة المغلقة ، لا يتوقف لدقيقة واحدة عن الكتابة أو عن الدندنة ، ورغم حرصي على إغلاق نور الغرفة حتى لا يشاهد ظلي خلف فتحات النافذة المغلقة ، إلا انه بين اللحظة والأخرى يعلو برأسه ناظراً ناحية النافذة للحظات ثم يعود إلى دفتره وإلى دندنة الأغاني ذاتها مرة أخرى وكأنه يعرف بأمر مراقبتي له .

حاولت جاهدا أن أرى وجهه فلم استطع بفضل هذا المصباح الذي جلس تحته مباشرة فأبهر ضوءه عيني كلما نظرت ناحيته فلا أستطيع تبين ملامح وجهه ، كأن هذا الوغد اختار موقعه بدقة حتى لا أرى وجهه .
اختفاءه أثناء ساعات الصباح كان يثير فضولي كثيراً لكن اختفاءه في الليل كان يثير خوفي ، فقد بدا وكأنه يختفي مني خصيصاً فحتى في مرات نزولي القليلة إلى الشارع أثناء المساءً أجده قد ترك المكان وقد ترك جواله على الأرض، واسمع من بعيد دندنة ألحانه تأتيني من مكان خفي .

سبب لي هذا المتشرد صداعاً مزمناً بصوته القبيح الذي شوه كل الألحان التي أحبها والتي يدندن بها طوال الليل تحت نافذتي ، وسبب لي قلقاً بالغاً في إحساسي الخفي بأنه جاء من أجلي خصيصاً .

ذات مساء نزلت لشراء بعض حاجاتي من عشاء وطعام ، كالمعتاد في هذا الوقت من الليل ، لم أجد سوى جواله واسمع دندنته تأتي من مكان مجهول ،شعرت بالغضب و قررت أن اقتحم حياته كما اقتحم حياتي ، فتحت الجوال كي ابحث عن دفتره الذي يدون فيه كتاباته ، بعثرت محتويات الجوال على الأرض بشكل استفزازي متعمدا أن أثير غضبه عندما يعود .

ذهلت عندما اكتشف أن الجوال لا يحوي سوى دفاتر كثيرة متشابهة الأحجام والأشكال، تسمرت في مكاني احترت أي دفتر آخذ ، تناولت أحدهم عشوائياً وانصرفت مسرعاً إلى شقتي.

فتحت الدفتر على مكتبي ، سمرتني المفاجأة مكاني ، هذا الخط السيئ اعرفه جيدا ً ، وهذا الأسلوب الممل احفظه عن ظهر قلب ، حتى هذه المواقف التي يدونها في هذا الدفتر اعرفها جيدا ...لم استطع أن افهم شيئاً ، فقط استولى علي شعور من الدهشة والهلع ،فجأة سمعت أنغام أغنية قديمة لفيروز طالما احببتها تنطلق من فم يدندن بها على بابي ويقرع الباب .

فتحت الباب وكلي خوف ورهبة ، ثم ما لبث ان شعرت بالخوف يقتلع قلبي من مكانه وأنا أرى وجه هذا المتشرد للمرة الأولى ، بريق العينين ...استدارة الوجه ...تسريحة الشعر التي اعرفها جيدا ...النظارة الطبية ....الشفتين الممتلئتين .... الحواجب الكثيفة ، كل هذه الصفات اعرفها جيداً ، واعرف تحديداً لمن هي ...

صاح بي : اظنك لم تكن تحتاج ان تأخذ الدفتر لتعرف من أنا ، لا اظن ان هناك احدا مازال يدندن باغاني فيروز في هذه الدنيا سوى انا وانا ....الم تعرفني يا محمود ؟؟
هززت رأسي في أسى وقلت : أعرفك جيدا يا .... محمود


. تمــــــت .