وكَلَّم قابيلُ هابيلَ أخاه، وحَدَثَ
إذ كانا في الحقلِ أن قابيلَ قامَ على هابيلَ أخيهِ وقتلهُ, فقال الربُّ لقابيلَ أين هابيلُ أخوك، فقالَ لا أعلمُ. أحارسٌ أنا لأخي، فقالَ ماذا فعلتَ. صوتُ دمِ أخيكَ صارخٌ إليَّ من الأرض.
(1)
سلام.. داليا.. مية.. سنار.. رشا.. أحلام...
وتنبعث في ذاكرتها شرارة سوداء.. سوداء حارقة أستنزف الحزن واللوعة والذكرى التي لا تموت ما فيها من وهج ناري فغدت بلون قار معتق.. ومع ذلك انفلاتة من مكامنها.. مع كل شهقة حب أو أسى.. تبعث الحياة من جديد في الأحزان الغافية في القلب...
ومر كشريط حي كل ما جرى في تلك الأيام أمام عينيها...
(((
رن جرس الباب بإلحاح.. عقارب الساعة لم تبلغ بعد السادسة من صباح نهار جديد.. كانت سميرة تساعد سعداً في تناول فطوره.. فيما كانت هناء تتناول فطورها بكسل وهي تصارع بقايا نوم ما زال عالقاً بين أجفانها.
أيقظها رنين الجرس.. تركت ما كان بيدها وهرعت نحو الباب لتفتحه..
تساءلت سميرة:
تُرى.. من القادم في هذا الوقت المبكر؟!
اندفعت أُم سميرة مجتازة الباب وهي تسأل وقد ارتم على وجهها خوف أنساها الرعب كيف تخفيه:
ـ هناء.. أين أمك؟
ودون أن تترك فرصة لهناء لترد عليها، راحت تنادي وهي تندفع كريح عاصفة هوجاء نحو الصالة:
ـ سميرة.. سميرة.. أين أنت؟
خرجت سميرة من المطبخ مسرعة وهي تنشف كفيها بمنديل أخضر تنتثر على حواشيه زهور صغيرة تزدهي بياضاً.. ووريقات حمر تبعثرت على جوانبها نقاط سود..
ـ أمي.. ما بك؟.. ماذا حدث؟
ـ سميرة.. جاء مبعوث من خالك برسالة عاجلة يدعونا فيها للذهاب إلى بعقوبة والبقاء معهم بضعة أيام ريثما تنجلي هذه الغمة.. حاولت الاتصال بك وبأحلام.. لكن التلفون كان عاطلاً.. أستعدي للسفر.. وسأقوم أنا بالاتصال بأحلام.. اتجهت نحو جهاز التلفون وهي تردد:
ـ إن لم يكن تلفونك عاطلاً..
ـ لا أدري.. لكني أظن أنه لا بد أن يكون عاطلاً.. فقد قصف قسم من بدالات بغداد منذ الأيام الأولى للعدوان.. واعتقد أنهم قد أجهزوا الآن على ما تبقى منها..
عادت أم سميرة باتجاه المطبخ.. وقفت عند فتحة الباب ومضت تقول:
ـ سميرة اسمعي.. اتصلي أنت بأحلام فأنا لا وقت لدي.. قولي لها أن تتهيأ للسفر، وقولي لها إن خالك يصرّ أن تأتي هي والصغار معنا..
بهتت سميرة.. فهي لم تعتد أن ترى أمها في حالة كهذه من الانفعال، وهي التي ما اعتادت أن تظهر لحظات ضعفها أمام الآخرين.. حتى أبنائها.. لكنها الآن لم تبق لابنتها ـ لشدة انفعالها ـ أية فرصة للكلام..
ـ اسمعي سميرة.. سأذهب الآن إلى بيت أم أروى.. إن لها رسالة معي وصلتها على عنوان الكلية حين كانت مجازة.. ولم أستطع أن أوصلها لها في حينه.. سأسلمها الرسالة وأعود إلى البيت..
وأضافت:
ـ أخشى أن يكون فيها شيء مهم.. لا يقبل التأجيل..
قاطعتها سميرة دون أن تفكر لحظتها بموضوع السفر..
ـ لكن أمي.. هل لديك وقود كاف في سيارتك؟
ـ أجل.. أجل ثم إن بيت أم أروى ليس بعيداً عن بيتي.. أعود بعدها فوراً إلى البيت آخذ حماماً وأهيئ ما نحتاجه للسفر..
استدارت لتغادر.. لكنها توقفت في منتصف المسافة لتقول:
ـ سميرة.. سنغادر صباح الغد.. بعد طلوع الفجر..
ـ ولكن...
وقاطعتها الأم:
ـ سميرة "الله يخليج" بلا ولكن.. وقولي لأحلام ألا تهتم بموضوع الأكل.. سأهيئ أنا كل شيء كي لا نضايق بيت خالك ولا نشعر نحن بإحراج.. يا لله.. يا لله سميرة.. لا تتأخري..
ومرة أخرى قاطعتها سميرة..
ـ أمي.. ولكن..
لم تترك أمها مجالاً لتتم ما تريد قوله.. واندفعت نحو الباب...
فغرت سميرة فاها وكأنها تريد بذلك أن تعبر دون أن تفكر، عن استغرابها مكررة بصوت هامس لا يكاد يسمع:
ـ بعد طلوع الفجر.. قبل طلوع الفجر.. ياه!
(((
حيرة مضنية شلت قدرتها على التفكير أو على اتخاذ قرار صحيح.. وأمامها طريق طويل.. طويل.. طريق مليء بالحفر.. بالأشواك.. بتكسرات وعقبات لا أحد يدري من أين يأتي.. متى.. وإلى أين المآل.. تجللها أجواء قد تشرق شمس نهاراتها وقد تخبو وراء غيوم دكناء.. ومطر.. وأعاصير هوجاء.. وعليها هي أن تسير وحيدة في دروب الحياة تشق السبيل أمام الصغيرين حتى يستطيعا الوقوف على أقدامهما.. ويواصلا المسير..
ماذا ينبغي أن تفعل.. وماذا يجب ألا تفعل.. لكن أملاً رهيفاً ظل يراوغها.. قد يتوقف العدوان ويعود السلام.. وتعود أنسام الصباح طرية.. ناعمة تشيع الحياة في أجساد أضنتها متاعب المسير.. وتزرع الأمنيات من جديد في نفوس جفت ينابيع الأمل في أعماقها في ما مر من سنين.. تجولت بعينيها بعيداً عن مجال الرؤية.. رياح الهجر تنوح نادبة الغِيِّاب الذين غادروا المدينة.. بيوت الحي خلت من ساكنيها وانطفأت الأضواء فيها.. الدكاكين مقفلة.. المخازن مقفلة.. ولم يعد هناك حانوت واحد تستطيع أن تحصل منه على ما قد تحتاج إليه من مواد غذائية.. واحتياجات بيتية.. الفرن القريب خبت نيرانه بعد أن غادر أصحابه المدينة.. ولو نفد ما لديها من مواد غذائية لتعين عليها أن تبحث عما تريد في مناطق أخرى خلت هي كذلك من كل ما يشيع دم الحياة في أوصالها.. وهنا ثمة مشكلة لا تقل فداحة.. وقود السيارات!
بدت بغداد التي كانت كعبة يؤمها الحجيج أفواجاً أفواجاً من كل فج عميق مدينة أشباح هاربة من ماضٍ سحيق يعج بالغيلان والسعالي.. أو أن زلزالاً قضى على كل ما كان يبعث الحياة فيها.. والعافية.. أبوابها مغلقة.. نوافذها مغلقة.. لا أنوار هناك.. لا ستائر ترتعش عند لمسة من نسمة رخية فترسم بارتعاشاتها أقواس قزح تنثر البهجة والفرح، كنثيث المطر، في القلوب المكلومة.. وأشجارها تشكو الظمأ ولا أحد هناك يعطيها قطرة ماء جفت في مآقيها.. مدينة مسحورة.. هجرها الأهل والخلان.. تنتظر وعد الله أن يعيد الحياة إليها.. متى؟! لا أحد يعلم! كان سكان بغداد يظنون أن مدينتهم وحدها.. وربما الموصل والبصرة، ستكون هدفاً للمعتدين.. ولم يكن يخطر ببال أحد أن مدن العراق كلها وقرى العراق كلها.. وبوادي العراق كلها.. وأكواخ الطين والقصب.. وحتى بيوت الشعر، ستكون أهدافاً للصواريخ.. إنهم يريدون تدمير العراق كله: مصانعه.. مزارعه.. مدارسه.. جامعاته.. مساجده.. كنائسه.. آثاره.. شواهد حضاراته.. مستشفياته محطات.. مائه.. كهربائه ووقوده ومجاريه.. كل شيء.. كل شيء في العراق.. ما كان.. ما كائن.. وما سيكون...
(((
نظرة وجلة ارتسمت في عيني الأم وهي تتطلع في ابنتها:
ـ سمير.. سميرة.. ما بك؟ أين سرحت؟
ـ لا.. لا شيء.. أنا هنا.. فقط كنت أفكر بموعد السفر.. بعد طلوع الفجر.. أمي!
أهذا معقول.. بعد طلوع الفجر؟!
ـ لم أكن أعني ذلك تماماً.. قصدت صباح الغد.. مبكراً..
ـ أمي أرجوك.. أسمعيني..
لم تدعها تكمل ما كانت تريد قوله.. قاطعتها بشيء من عصبية بادية في ثنايا الكلمات:
ـ قولي لي.. ماذا ننتظر هنا؟ أن تسقط القنابل العنقودية والصواريخ على رؤوسنا؟ إن هؤلاء قوم لا رحمة في قلوبهم.. ولا أخلاق تردعهم عن ضرب البيوت وقتل الأطفال.. لا دين لهم ولا مخافة الله.. إنهم يقصفون البيوت على رؤوس ساكنيها.. وأنت أعلم بهذا..
وقفت سميرة جامدة وقد أذهلها انفعال أمها.. فهي لم ترها أبداً في يوم من الأيام بمثل هذه الحالة.. حتى في أشد الظروف ضراوة.. كان الجميع يغبطونها على قدرتها على التماسك والتفكير الصائب في الأوقات العصيبة. ولم يكن أحد من معارفها أو أقربائها يتردد في طلب نصيحتها، إذا ما ألمت به مصيبة من مصائب الزمان.
ـ سميرة أسمعي.. أنا لا أستطيع أن أتصور أنني سأحتمل رؤية سعد.. هناء.. أو أبناء أحلام.. أو أي طفل آخر وقد انهارت السقوف على رؤوسهم الصغيرة. تأملي مشهداً كهذا.. ما الذي يمكنك أن تفعليه حينها؟ لقد مرت أيام على العدوان وهم يدمرون كل شيء تراه عيونهم.. والأطفال يا سميرة سيكونون بأمان في بستان خالك.
توقفت لحظة عن الكلام.. استدارت متوجهة نحو الباب وهي تردد:
ـ مع السلامة.. مع السلامة.
كانت سميرة حائرة.. يتجاذبها نقيضان.. أن تبقى وطفليها في بغداد.. وقد تصدق مخاوف أمها.. وتتساقط على رؤوسهم القذائف اللعينة.. أو أن توافق على اقتراح أمها وتلبي دعوة خالها.. بقيت صامتة لحظات وقد تسمرت في مكانها وغاب عن ذهنها للحظات سعد وفطوره..
عادت هناء إلى المطبخ لتكمل تناول فطورها.. تذكرت سميرة سعداً.. عادت هي الأخرى.. وفي رأسها سؤال واحد:
ـ ماذا أفعل؟
لكنها سرعان ما وضعت لحيرتها حداً.. ريثما تتوصل لحل يرضيها.. وهي تخاطب نفسها:
ـ خير لي أن أذهب إلى أحلام وأبلغها دعوة خالي.. بعد أن ننتهي من الإفطار..
"السفر..."
يتبع